اخط هذه الكلمات كتدوينة عهد ووفاء لامي الغالية..لقد فطر الله المرأه بأنوثتها على الامومة والحنان، فهي نبع مشاعر فياض لا ينضب، هي طير الامل الذي يحلق حولك اينما ذهبت، وتجده في العش عندما تعود آخر النهار او حتى بعد جفاء طويـــل..من الطبيعي ان الامومة هي شعور فطري عند كل أنثى، لكنه شئ نسبي يتعلق بتجربتها، كم طفل ولدت وربت؟ في أية ظروف ربتهم؟ مدى تعلقهم بها ومدى تعلقها بهم والكثير الكثير من الامور لعلي لا افقهها لانني لم اصبح أما بعد !لكنني مؤخرا مررت بتجربة اضطررت بها ان "أقوم" بدور الام بسبب سفر أمي العزيزة وابي الغالي الى الديار المقدسة لمدة أسبوعين، عشت خلالها تجارب حلوه ومره، وكانت فترة عصيبة نفسيا علي.. لانني كنت "أما" لثلاثة "رجال" وهم أخوتي الثلاثة الذين يصغرونني سنا جميعا لكنهم بالغين ومن المفروض ان "يتدبروا" أمورهم بأنفسهم من غير "الماما" !باعتبار ان اصغرهم ما زال طفلا بنظري، فهو مقبل على المرحلة الاعدادية في مطلع الشهر القادم، الا انه صاح بي عندما قصدت الصيدلية لاشتري له دواء اثر تدهور حالته الصحية بعد سفر الوالدين، حيث كتب له الطبيب دواء على شكل محلول (سيروب للاطفال) : " انا صرت زلمه ليش ما كتبلي حبوب؟! رجعيها! " .. هكذا بنبرة الرجال قرر انه أصبح رجلا منذ اليوم وسيتوقف عن شرب الدواء على شكل محلول بل انه يريد تناول الحبوب.. طبعا بعد سلسلة مفاوضات وببعض المهارات التي علمتني اياها أمي اتفقت ان يشربه هذه المره، والمره القادمه يخبر الطبيب أنه اصبح "رجلا" وسيشرب الحبوب منذ اليوم وصاعدا !
أما الاوسط فهو أروعهم واكثرهم مسؤولية، لم أشعر به في المنزل الا في اليوم الثاني عندما فتح خزانته وأخذ يبحث عن بعض ثيابه المحبوبة التي يرتديها دائما ولم يجدها، لانها ما زالت في الغسيل، وبسبب "الضغط" في شغل البيت اضطررت لتأجيل الغسيل للصباح، فنادني وسألني عن ثيابه وهو يشتكي ويقول " منذ ان سافرت أمي وانا ثيابي ضايعه!" .. لا يمكنني وصف مفعول هذه الجملة في نفسيتي!
أخذت المشاعر تلاطمني كما يلاطم الموج صخر الشاطئ، وتساؤلات كثيرة علت في رأسي " كيف كانت أمي تنظم امورها مع كل هذا الضغط؟" " هل كانت تعرف ان أخي يحب هذه الثياب فتغسلها يوميا وتهيئها له عندما يعود من العمل ليلبسها ؟ " "هل فعلا ثياب اخي تبعثرت وضاعت لان امي ليست في البيت ؟ "
تساؤلات كثيرة وجدت لها أجوبة
أثناء هذه الفترة وساحكيها لاحقا..
أما أخي الاكبر، والذي يصغرني بسنتين، فقد كان ينافسني على المسؤولية، فهو يريد أن يشعر الجميع انه المسؤول عنهم، احيانا بكل ثمن! وطبعا هذا الموقف يحتاج الحكمة، فالسفينة لا تنجو بربانين، ولن تستطيع الوصول للشاطئ، فتركت له هذه المسؤولية العامة واستثمرت طاقتي في مسؤولية البيت وأعماله..صباح اليوم الثاني، سمعت صوت امي تناديني من المطبخ -كعادتها كل صباح- فقمت مسرعه وصلت الباب وقلت "نعم يما" لحظات صمت رهيب في البيت.. استدركت بعدها ان أمي ليست هنا.. وأنني كنت أحلم.. نظرت الى الساعه، انها السادسة.. علي ان اسرع باعداد القهوة للعمال قبل ان يصلوا، وان اعد زاد العمل لاخوتي... اوه! نسيت ان اخطط ماذا سأحضر للزوادة اليوم؟ لقد كانت امي تستشيرني يوميا وطالما يحيرها سؤالين : ماذا ستعد للزوادة؟ وماذا ستطبخ في اليوم التالي! اما انا فلم اكن كأمي فطنة ولم اتنبه لهذه النقطه.. ومر اليوم الاول دون زوادة.. وقلت لاخوتي "اشتروا زوادة الله بعينكم!"انطلق العمال للعمل وانا ادعو لهم بالتوفيق والرزق، وان يحرسهم الله من كل شر ويقيهم من كل بلاء ومكروه.. نظرت في انحاء البيت، مشيت لغرفة والديّ والقيت اليها نظرة جريئة لم تلبث ان تضعضعت وهزمتها دموعي فلم اعهد هذه الغرفة بهذا الفراغ ! جمعت نفسي بعدها لانطلق في مارتون عمل البيت وتحضير الطعام، واخترت ان اعد أكلة المعكرونه لان أخوتي يحبونها، واجتهدت ان اتفنن فيها فصنعتها على الطريقة الايطالية كما احبها.. لكن سرعان ما تكللت جهودي بالفشل عندما رأها اخي الاكبر وقال : " شو هذا؟ طول النهار بالمطبخ تلعبي .. المعكرونة مش طيبه.. اذا بدك تطبخيها اطبخيها مثل امي! " اه يا ربي، صحيح انني اطمح
ان اكون كأمي، لكنني على الاقل في هذه الفترة تدنت طموحي لاكون اقرب ما يمكن
اليها.. انها تعرف ماذا يحب الجميع، ما هي اذواقهم، في الاكل، في الملابس، في
الشراب، في كل شئ تقريبا..
كم هي صعبه المسؤولية، أكثر مما تصورتها!! ان الام بشكل طبيعي تمر بعدة تجارب تعودها على المسؤولية، من الزواج وحتى الحمل وحتى الولادة ثم الامومة.. لكنها لا تصبح اما بيوم وليلة.. وليست اي ام.. ام لثلاثة رجال !
فالطفل ينشأ على ما عودته أمه، وهو يحب كل ما تقدمه له امه وتختاره له، لانها تقدمه مع "رزمة" من عواطف منوعة ما بين الحنان والحب والمسؤولية والعطف والخوف و.. حتى اذا اصبح فتىً ومن ثم رجل.. أصبح ذوقه كذوق أمه او ما شابهه، فهو يحب المعكرونه على طريقة أمه، ويحب الثياب التي اختارتها له أمه، وتعدها له كل يوم ليرتديها.. فلا عجب انه اذا اراد ان يختار شريكة حياته لجأ الى أمه !
مرت الايام، وانقضى الاسبوعين كأنهم سنتين، كنت اعدهم بالدقائق والثواني، وعادت أمي الغالية الى البيت، وجلست اليها بين يديها أحكي لها عن هذه الدورة "المكثفة" في مدرسة الحياة وعن النهفات والمواقف التي حدثت فيها، وخلاصة حديثي لها " اننا بدونك لا نسوى شئ في البيت"